منزلة المثقفين في الأمة | محمد البشير الإبراهيمي
المثقفون في الأمم الحية هم خيارها و سادتها و قادتها و حراس عزها و مجدها.
تقوم الأمة نحوهم بواجب الاعتبار و التقدير، و يقومون هم لها بواجب القيادة و التدبير، و مازالت عامة الأمم، من أول التاريخ تابعة لعلمائها و أهل الرأي و البصيرة فيها، تحتاج إليهم في أيام الأمن و في أيام الخوف. تحتاج إليهم في أيام الأمن لينهجوا لها سبيل السعادة في الحياة، و يغّذونها من علمهم و آرائهم بما يحملها على الاستقامة و الاعتدال، و تحتاج إليهم في أيام الخوف ليحّلوا لها المشكلات المعّقدة و يخرجوها من المضائق محفوظة الشرف والمصلحة.
و المثقفون هم حفظة التوازن في الأمم و هم الَقومة على الحدود أن تهدم و على الحرمات أن تنتهك و على الأخلاق أن تزيغ ، و هم الميزان لمعرفة كل إنسان حد نفسه، يراهم العامي المقصر فوقه فيتقاصر عن التسامي لما فوق منزلته، و يراهم الطاغي المتجبر عيونا حارسة فيتراجع عن العبث والاستبداد. إذا كانوا متبوعين فمن حق غيرهم أن يكون تابعا، أو كانوا في المرتبة الأولى فمن حق غيرهم أن يكون في الثانية، و لا أضر على الأمم من الفوضى في الأخلاق و الفوضى في مراتب الّناس، ولكن هل عندنا مثّقفون بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة؟ و ما دام حديثنا في دائرة محدودة و هي الأمة الجزائرية بصفتها الحاضرة، و تفصيلنا للقول إّنما هو على مقدارها فلنقل مخلصين:
هل فينا مثّقفون بالمعنى الصحيح الكامل لهذه الكلمة ؟ و لنكن صرحاء إلى أبعد حد. الحق أّنه لا يوجد في الأمة الجزائرية اليوم مثّقفون على نسبة حالها، و على حسب حظها من الإقبال على العلم، و على مقدار الوسائل التي تهيأت لها في ذلك و لكن المثّقفين مّنا قليل جدا لا في الكم و العدد و لا في الكيف والحالة، ولا نطمع في زيادة عدد المثّقفين إلا إذا زاد شعور الأمة بضرورة التثقيف، و تهيأت أسبابه أكثر مما هي متهيئة الآن و لا نطمع في زيادة الكيفية إلا إذا توحدت طرائق التثقيف و جرت على ما يوافق روح الأمة في دينها و عقائدها الصحيحة و تاريخها و لغتها و جميع مقوماتها، و اتحدت الأهواء المتعاكسة و اتفقت المشارب المختلفة في الأمة وصحت نظرتها للحياة و صح اختيارها لطرقها المناسبة لوجودها.
إن أول واجب على المثقفين إصلاح أنفسهم قبل كل شيء، كل واحد في حد ذاته، إذ لا يصلح غيره من لم يصلح نفسه، ثم إكمال نقائصهم العلمية و استكمال مؤهلاتهم التثقيفية حتى يصلحوا لتثقيف غيرهم، إذ ما كل مثقف يكون أهلا لأن يثقف، و إذا كان المثقفون قبل اليوم في حالة إهمال فحالتهم إذا هيأوا أنفسهم لتأدية الواجب تستلزم اهتماما آخر واستعدادا جديدا. و ثاني واجب هو إصلاح مجتمعهم كل طائفة مع كل طائفة بالتعارف أولا و بالتقارب في الأفكار ثانيا، و من طبيعة الاجتماع أنه يحذف الفضول و اللغو، و بالتفاهم في إدراك الحياة و تصحيح وجوه الّنظر إليها ثالثا، و بالاتفاق على تصحيح المقياس الذي تقاس به درجة الثقافة رابعا
.
و هذه الّنقطة الأخيرة من ألزم اللوازم فإن التباعد بين المثقفين و خصوصا بين أهل الثقافة العربية و الثقافة الأوروبية، أدى إلى فتح الباب و كثرة المتطفلين، فأنا من جهتي لا أرضى بحال أن أحشر في زمرة المثّقفين كل من يكتب بالعربية الصحيحة مقالة في جريدة و لا كل من يستطيع أن يخطب في المجتمع، و هو مع ذلك عار من الأخلاق أو لا يحسن الضروريات من المعارف العصرية، و ما أكثر هذا الصنف فينا، و هم يعدون في نظر الّناس و في نظر أنفسهم من المثّقفين، و أنا أشهد الله أن هذا ظلم للثقافة ما بعده ظلم، كما أنه يوجد في قراء الفرنسية عدد كثير من حملة الشهادات يزعمون لأنفسهم أو يزعم لهم الّناس أو يزعم لهم العرف الخاطئ أنهم من المثّقفين، و هذا كذلك ظلم للثقافة لا أرضاه. وإن أمثال هؤلاء من الطرفين لو دخلوا في عمل أفسدوه، لنقص معلوماتهم أو فساد أخلاقهم و قصر أنظارهم وجهلهم بالتطبيق، و لا نستريح من هؤلاء إلا إذا جاء وقت العمل فإن القافلة إذا سارت و شدت الرحال تخلف العاطل و ظهر الحق من الباطل.
No comments:
Post a Comment